السماءُ تُمطِرُ شُهُباً
« قصّة سيّدنا لوط عليه السّلام »
كانَ سيّدُنا إبراهيمُ ينتظرُ ضَيفاً ليتناولَ معه طَعامَ الغداء.. كانَ سيّدُنا إبراهيمُ يُحِبّ الضُّيوفَ.. إنّه يُرحِّبُ بهم دائماً.. يُقدّم لهم الماءَ العذبَ واللبنَ الطيّبَ والطَّعامَ الشَّهيّ..
المسافرونَ كانوا يُحبّون سيّدَنا إبراهيمَ لِكرمهِ وِطيبَتهِ وأخلاقهِ الرفيعة.
ذاتَ يومٍ جاء ثلاثةُ ضيوفٍ كانوا شُبّاناً وَسِيمِين... سيّدُنا إبراهيمُ رَحّبَ بهم.. وفَرِحَ بقُدومِهم.. لهذا أسرَعَ إلى إكرامِهم..
ذَبَح لهم عِجْلاً وشَواه... وقدّمَهُ إليهم.. كانت التقاليدُ في ذلك الزمانِ أنّ الضيفَ إذا امتَنعَ عن تَناولِ الطعامِ فمعنى هذا أنهم يَرفضونَ ضيافتَهُ ويُضمِرونَ له شَرّاً..
أمّا إذا أكَلوا من الطعامِ فإن رابطةَ صداقةٍ سَتَنشأ بين الضيوفِ والمُضيّفِ بسببِ حُرمةِ المِلحِ والزاد.
قدّمَ سيّدُنا إبراهيمُ الشِّواءَ لضيوفهِ... وهنا حَدَثَ شيءٌ عَجيب!!
لقد امتَنَع الضيوفُ عن تناولِ الطعام.. شَعَرَ إبراهيمُ بالخوفِ من هؤلاءِ الضيوف!
ترى.. هل يَنْوُونَ به شرّاً.. كشفَ الضيوفُ عن هُويّتهم، قالوا له: إنّهم ملائكةُ اللهِ، وإنهم مُرسَلون إلى قُرى سَدُوم للانتقامِ من أهلِها..
حَزَنَ سيّدُنا إبراهيمُ وشَعَر بالأسفِ، وحاولَ أن يَدفَعَ عن سكّانِ القُرى العذابَ، فلعلّهم يعودون إلى رُشدِهم..
قالَ لهم: إنّ فيها لوطاً، فماذا سيكونُ مَصيرُه ؟!
قالوا له: نحنُ أعلَمُ بمن فيها..
وحتّى يذهبَ الحزنُ عن قلبِه، بَشّرَهُ الملائكةُ بوَلدٍ صالح..
حاول سيّدُنا إبراهيمُ أن يُجادِلَهُم في قومِ لُوط، ولكنّ الملائكةَ قالوا له: يا إبراهيم، أعرِضْ عن هذا، فقد جاءَ أمرُ ربِّك...
سكتَ إبراهيمُ، وذهبَ الملائكةُ إلى قُرى سَدُوم للانتقامِ من أهلها...
فما هي قِصّتُهم وما هي قصّةُ سيّدِنا لوط عليه السّلام.. هذا ما ستَعرفُه في هذا الكتاب، فهيّا معاً.
* * *
قرأنا فيما مضى قصةَ سيّدِنا إبراهيمَ خليلِ الرحمن.
سيّدُنا إبراهيمُ عاشَ في أرضِ بابلَ ودَعا سُكّانَها إلى عبادِة اللهِ ونَبْذِ الاصنامِ. ونَتذكّر أيضاً كيفَ كفَرَ الناسُ برسالةِ إبراهيم عليه السّلام.
ولما أرادَ سيّدُنا إبراهيمُ الهِجرةَ من أرضِ بابلَ قَرّرَ لوطٌ أيضاً أن يُهاجِرَ معه...
وهكذا تَركَ لوطٌ بلَدهُ وهاجَر.. ولمّا وصَلَت القافلةُ إلى أرضِ سَدُوم أمرَ سيّدُنا إبراهيمُ لوطاً أن يَسكُنَ في تلك القُرى، ويَدعو أهلَها إلى عبادةِ الله ونَبْذِ الأصنام.
وفي قُرى سَدُوم بَدَأت قصّة لُوط عليه السّلام، فسيّدُنا لُوطٌ من أرضِ بابلَ آمَنَ بسيّدِنا إبراهيمَ. وعندما أرادوا إحراقَ سيّدِنا إبراهيمَ بالنارِ قالَ: إنّي مُهاجِرٌ إلى ربّي، فهاجَرَ مع إبراهيمَ إلى الأرض المقدّسةِ فلسطين..
في الطريقِ أمَرَ إبراهيمُ لوطاً أن يَسكُن في أرضِ سَدُوم ليدعو أهلَها إلى دينِ اللهِ والعَودةِ إلى الفِطرة.
وسَدُومُ مجموعةُ قُرى على شاطئ البحرِ المَيّتِ في الأُردنّ.
هناكَ عاشَ سيّدُنا لوط عليه السّلام.. تَزوّجَ ورَزَقهُ الله بناتٍ مُؤمنات.
أهلُ سَدُوم
كانَ أهلْ سَدُوم يعيشونَ على الزراعة... يَعملونَ من الصباحِ وحتّى غروبِ الشمسِ، ثمّ يعودونَ إلى منازِلِهم في القرية..
لا أحدَ يَعرفُ كيف ساءت أخلاقُهم وأصبَحوا أشراراً يَعملونَ المُنكَر...
كانوا يَقطعون الطَّريقَ على المَسافرين.. يُصادِرونَ أموالَهُم ويَنتَهكونَ أعراضَهُم...
المسافرونَ كانوا يَخافونَ من الاقترابِ من منازلِ سَدُوم وأهلِها المُجرمين.. كانوا لا يَعرفونَ مَنزلاً يُكرمِهمُ ويُقدّمُ لهم الطعام، ويُحسِنُ لهم سوى منزلٍ واحدٍ، هو منزلُ لوط عليه السّلام...
عاشَ سيّدُنا لوطٌ في ذلك المجتمعِ الفاسِد المنحرفِ.. كان يَشعُرُ أنّه يعيشُ في وسطِ الجَحيم..
رآهُم يعملونَ المُنكَراتِ التي يَنْدى لها جَبينُ الشُّرفاءِ الاحرار...
كانوا يَلعبونَ القِمار... يَقطعون الطريقَ على المسافرينَ. أصبَحَت تلك الأعمالُ جُزءً من تقاليدِهم القَوميّة..
كانوا جميعاً أشراراً.. لم يَعودوا يَخجَلونَ من أعمالِهم الدَّنيئةِ والمُنحَطّة...
كان سيّدُنا لوطٌ يعرفُ سببَ كلِّ ذلك الفساد.. لقد ابتَعَدوا عن فِطرةِ الإنسانِ الطاهرة..
اللهُ سبحانَهُ خلقَ الإنسانَ طاهراً من الدَّنَسِ، خَلقَهُ نَظيفاً، ولكنّه هو الذي يُوسِّخُ نَفسَهُ.. لماذا ؟ لأنه يُصغْي إلى الشيطانِ ويَبتعدُ عن الأنبياء.
سيّدُنا لوطٌ كان يَنصَحُ قومَه... يقولُ لهم: عُودُوا إلى فِطرتِكُم، عُودوا إلى ربِّكم.. إلى طُفولتِكُمُ الطاهرة..
لماذا لا تَعيشونَ حياةً طيبة ؟! لماذا تَبتعدونَ عن الحياةِ العائليةِ النَّظيفة ؟
تَحَطّمت عَلاقاتُهم الأُسَريّة.. الرجالُ كانوا يَقضُون أوقاتَهم معاً، والنِّساء كُنَّ يَقضينَ أوقاتَهُنّ معاً...
الناسُ المسافرونَ كانوا يكرهونَ سُكّانَ تلك القرى.. لقد اصبَحوا أشراراً سَيّئين.. يَعتَدونَ على الحُرُماتِ ويَنتَهِكونَ الأعراض.
كم مرّة أرادوا طَرْدَ لوطٍ مِن أرضِهم!! كم مرّة تآمَروا علَيه!!
كانَ سيّدُنا لوطٌ يعيشُ غريباً بينهم... كانَ نظيفاً... وكانوا قَذِرين.. كانَ يُحبّ الضيوفَ وإكرامَ الغُرَباء... أمّا هم فكانوا يَقطعونَ الطريقَ ويَعتدونَ على الغُرَباءِ والمُسافرين.
كانَ لوطٌ يَعبداللهَ وحدَه، أمّا أهلُ سَدُوم فكانوا يَعبدونَ الأصنامَ. كانَ رجُلاً طيّباً، وكانوا جميعاً أشراراً.
كلُّ أهلِ سَدُوم كانوا يكرهونَ لوطاً؛ لأنّه لا يَعملُ مثلَ ما يَعملون، ولا يَسكُتُ عن أعمالِهم... حتّى زوجتُهُ كانت مع أولئكَ الكفّار... لم تَكُن تُؤمنُ بالله، كانت تَعبدُ الأصنامَ... وكانت راضيةً بما يعملُ أهلُ سَدُوم من المُنكَرات.
لوطٌ وحدَه مع بناتهِ كانوا يؤمنونَ بالله ويَتبرّأونَ من أعمالِ أهل سَدُوم.
الفسادُ كان يَزدادُ كلَّ يومٍ، وعذابُ لوطٍ كانَ يزدادُ كلَّ يوم.. ومِحنَتُه تزدادُ مع أولئك الناسِ الأشرارِ، الذين يَعيشونَ كما تعيشُ الخَنازيرُ.
ذاتَ يومٍ جاء رجُلٌ غريب... لم يَكُن يَعرفُ أهلَ تلك القرى الظالمة... مِن حُسنِ الحظّ كانَ سيّدُنا لوط يَعملُ في حَقلِه... سيّدُنا لوطٌ رحّبَ بالرجلِ الغريب. تَلفَّتَ يَميناً وشِمالاً.. كانَ يَخشى أن يَراه أحدٌ... الرجلُ الغريبُ سألَ سيّدَنا لوطاً عن سبب خَوفه ؟! سيّدُنا قال له: إنّ أهل هذه القُرى يَقطعونَ الطريق.. ويأخُذونَ منه أموالَهُ ويَعتَدونَ عليه.
الرجلُ الغريبُ شَعَر بالرُّعبِ يَملأُ قَلبَهُ... سيّدُنا لوطٌ أخفاه في الحقلِ لحينِ حُلولِ الظلام...
وعندما غابَتِ الشمسُ أخَذَ لوطٌ ضيفَهُ وذَهَبا إلى المنزِل... رَحّبَ لوطٌ بضيفهِ مرّةً أخرى.
سيّدُنا لوطٌ أغلقَ البابَ بإحكامٍ حتّى لا تُخبِرَ زوجتُه أهلَ القريةِ بقدومِ الضَّيف.
قدّمَ سيّدُنا لوطٌ طعاماً طيّباً لضيفهِ، وراحَ يُحدّثه ويُلاطِفُه حتّى يَهنأ بعَشائه.
اطمأنَّ الرجلُ الغريبُ، وأكلَ طعامَهُ بشهيّة. وبعد ساعةٍ رَقَد في فراشهِ ونام...
عندما طَلعَ الفجرُ استيقَظَ الضيفُ، ووجَدَ لوطاً جالساً ينتظر... غَسَل الرجلُ يدَيهِ وتناولَ اللَّبنَ الساخنَ.. كانَ عليه أن يُغادِرَ أرضَ سَدُوم قبل طلوعِ الشمسِ حتّى لا يتعرّضَ له الأشرارُ بِسُوء!
هكذا كانَ سيّدُنا لوطٌ يَستقبلُ ضُيوفَهُ ويُودّعُهُم، وهكذا كانت حياةُ لوطٍ في تلك القُرى الظالمة.
ولكنْ هل استمرّت الحياةُ هكذا ؟ كلاّ... كما ذَكَرنا.. جاء ضُيوفٌ عَجيبون! جاءوا أوّلاً إلى سيّدِنا إبراهيم.. جاءوا ليبشّروهُ بمِيلادِ صَبيٍّ طيّب.. صَبيّ له شأنٌ كبيرٌ، صَبيّ طاهر..
كان إبراهيمُ في ذلك الوقتِ شيخاً... وكانت امرأتُه سارةُ عَجوزاً، وكانت أيضاً عَقيماً، فَرِحَ سيّدُنا إبراهيم، وتَعجَّبت سارةُ من هذه البُشرى...
فقال الملائكة: لا تَعْجَبوا من أمرِ الله.
وعندما أرادَ الملائكةُ الذين كانوا يَرتَدُون زِيَّ الضُّيوفِ الغُرَباء أن يَذهبوا إلى قُرى سَدُوم... قالَ لهم إبراهيمُ: إنّ فيها لوطاً...
كانَ سيّدُنا إبراهيمُ يريدُ أن يَصرِفَ العذابَ عن أهلِ سَدُوم، فلعلّهم يَتوبون ويعودون إلى فطرتهِم النظيفة.. الملائكةُ قالوا له: لقد جاءَ أمرُ الله.
انطَلقَ الملائكةُ إلى أرضِ سَدُوم... وشَعَرَ سيّدُنا إبراهيمُ بالحزنِ لهذا المصيرِ الذي يَنتظرُ أهلَ سَدُوم.
نَعم، انطلقَ الملائكةُ إلى أرضِ سَدُوم ودَخَلوا قُراها في زِيِّ ضُيوفٍ غُرَباءَ لم يَشعُرْ بهم أحدٌ.
عندما طَرَقوا بابَ منزلِ لوط..
كان الوقتُ مساءً... فتَحَ سيّدُنا لوطٌ البابَ، رأى ثلاثةَ شُبّانٍ وَسِيمِين...
شَعَر لوطٌ بأنّه قد وقَع في مَأزِقٍ حَرِج.. هل يَعتذِرُ عن استِضافَتِهم ؟!
ولكنْ هذا ليس مِن الأخلاقِ ولا من الدِّين.. ليس مِن الأخلاقِ الكريمةِ أن يُوصِدَ المَرءُ البابَ بوجهِ مُسافرٍ غريب.
وليس من الدِّين أبداً طَردُ الإنسان... فلعلّه كانَ جائعاً أو ظامئاً أو مُسافراً انقَطَعت به السُّبُل...
ماذا يَفعل ؟ رَحّبَ سيّدُنا لوطٌ بضيوفهِ، وأدخَلَهُم بسرعةٍ وأغلقَ الباب.
زوجةُ سيّدِنا لوطٍ رأت الضيوفَ.. هاجَ الشرُّ في نفسِها أرادت أن تُخبِرَ أهلَ القرية، ولكنّ البابَ كانَ مُوصَداً..
وَسْوَسَ الشيطانُ في قلبِها أن تُشعِلَ ناراً... سوفَ يَراها أهلُ القرية ويَعرفون أنّ ضُيوفاً طرَقَوا منزلَ لوط..
صَعدَت فوقَ سطحِ المنزلِ، وجَمَعت بعضَ الحَطَب، وأضرَمَت النار.. تصاعَدَت ألسنةُ النارِ والدُّخان..
* * *
كلُّ أهلِ القريةِ انتَبَهوا لهذهِ العَلامة... لهذا رَكَضوا نحوَ منزلِ لوط. تَجمّعوا عند المنزلِ وراحوا يَطرُقونَ البابَ بِعُنف...
كانوا جميعاً يَحمِلون بأيديهم الحجارةَ.. لقد تَعَوّدوا على ذلك... تَعوّدوا أن يَرمُوا الضيوفَ بالحِجارةِ، فأيُّهم أصابَ أوّلاً كان الضيفُ مِن نَصيبه.
سَمِعَ سيّدُنا لوطٌ طَرقاتِ البابِ، فأدركَ أنّهم قَومُه جاءوا لِيَعتدوا على ضيوفهِ..
حارَ ماذا يفعل!! تَوالَت الضَّرَباتُ العَنيفةُ، وتَعالَت صَيحاتُهم بفتحِ الباب وإلاّ حَطّموه.
فَتَح سيّدُنا لوط البابَ، وخَرجَ إليهم وحيداً، وأغلقَ البابَ وراءه. راحَ يَنظُرُ إليهم، وقالَ ونفسُه يَملأها الأسى والحُزن:
أليسَ فيكُم رَجُلٌ رَشيد ؟!
أليسَ فيكُم رجُلٌ عاقلٌ يَشمَئزُّ مما تَفعلونَهُ من المُنكَرات.. وقطعِ الطريقِ على المسافرين ؟!
وتمنّى لوط أنّه لم يكن وحيداً، تمنّى أن يكونَ له أولادٌ وعَشيرةٌ تَدفَعُ عن منزلهِ وضيوفهِ هَجَماتِ المُعتدين..
صاحَ لوطٌ بأهل سَدُوم:
الا تَسْتَحونَ ؟ ألا تَخجَلونَ من أنفُسِكُم ؟! أتُريدونَ أن تَفَضَحوني في ضُيوفي ؟!
عُودوا إلى مَنازلِكُم، عُودوا إلى حياتِكُم العائليّة... عُودودا إلى فِطرتِكُم، إنّ الله سيَغَضَبُ عليكم..
أهلُ سَدُومَ كانوا يُقَهقِهُونَ.. صاحَ أحدُهم: سَلِّمنا ضُيوفَكَ وإلاّ حَطَّمْنا البابَ وأخَذناهُم بالقوّة!
نَظَر سيّدُنا لوطٌ يَميناً وشِمالاً.. لم يَرَ أحداً يقفُ إلى جانِبه، لقد كانَ وحيداً. أمّا هم فكانوا عَشَراتٍ أحاطوا بمنزلهِ كالذئاب.
في تلك اللحظاتِ المُثيرةِ انفَتَحَ البابُ.. وظهَرَ الضيوفُ الثلاثة.
قالَ الضيوفُ: لا تَخْشَ شيئاً يا لوط.. نحنُ لَسْنا ضُيوفاً، نحن رُسُلُ الله... لقد أمَرَنا الله أن نُدمِّرَ هذه القريةَ.. لن تُشرِقَ الشمسُ حتّى تَتحوّلَ هذه القريةُ الظالمةُ إلى خَرائب..
أمّا أنتَ يا لوطُ فاخْرُجْ من القريةِ فَوراً خُذْ معكَ أُسرتَكَ وامضِ بَعيداً.. وإيّاكَ أن تَلتَفِتَ إلى ورائك أبداً!
وفي تلك اللحظةِ أشارَ الضُّيوفُ بأصابِعهم نحوَ أهلِ سَدُوم، فانبَعَثَت أشعّةٌ غريبة..
كلُّ رجالِ القريةِ فَقَدوا أبصارَهُم.. أصبَحوا عِمْياناً لا يُبصِرونَ شيئاً.. وسادَت الفَوضى جُموعَهُم..
كانت الساعاتِ الأخيرةَ من تلك الليلة.. وكانَ على سيّدِنا لوطٍ أن يُغادرَ أرضَ سَدُومَ قبلَ حُلولِ الغَضَب.
أمَرَ سيّدُنا لوطٌ أسرتَهُ أن تَستعدَّ لمُغادرةِ القريةِ في قَلبِ الظلام وفي مُنتَصفِ الليل..
كانَ عليه أن يَرحَلَ ويأخُذَ معه أُسرَتَهُ وماشِيَتَه بَعيداً.. سادَتِ الفَوضى أهلَ سَدُوم.. وغادَرَ لوطٌ وأُسرَتُه القريةَ على عَجَل.
وكانت زوجةُ لوطٍ تَسيرُ خَلفَ الماشية، وكانت تَلتَفِتُ إلى القريةِ في كلِّ لحظةٍ في كلِّ مرّةٍ كانت تتوقّف وتَنظُر.. اختَفى لوطٌ خَلفَ التِّلال..
زوجةُ لوطٍ كانت تُراقب النارَ التي أوقَدَتْها فوقَ السَّطح.. انطفَأَت النار.. وسادَ السُّكوتُ كلَّ شيء.. فَكَّرت زوجةُ لوطٍ بالعَودة... كانَ الفجرُ على وَشْكِ أن يَنفَلِق..
فجأة حَدَثَ أمرٌ رهيب!! دَوَّت صَيحةٌ مُزَلزِلَةٌ تُشبِه صوَت الرَّعد، ولكنها كانت أكثرَ شِدّة.. وانفَجرَ من مكانٍ ما بُركانٌ هائلٌ راحَ يَقذِفُ الحِمَمَ المُشتَعِلةَ في الفضاء.
امتلأت سماءُ سَدُوم بكُتَلِ النارِ المُلتهبة، وغَمَرت النارُ أرضَ سَدُوم.
وانبثَقَت من قَلبِ الظلامِ شُهُبٌ ونَيازكُ.. لقد أمطَرَت السماءُ شُهُباً وناراً..
سقَطَت زوجةُ لوطٍ على الأرض.. تَحوَّلَت إلى كُتلَةٍ من المِلح!
لقد أذاقت زوجَها صُنوفَ العَذاب.. كانت وَثنيّةً وكانت امرأةً كافرةً خانَتْ زَوجَها ووَقَفت إلى جانبِ أهلِ سَدُوم الظالمين.. فلاقَت جَزاءَ خيانتِها..
خرائبُ وعِبَر
أطلّ الصباحُ وأشرَقَت الشمس.. ولكنْ لا أثرَ لِقُرى سَدُوم.. لقد تَحوّلَت إلى خَرائبَ وأنقاضٍ، تَحوّلَت إلى أكوامٍ من الحِجارة المُحتَرِقة والمِلح..
كلُّ شيءٍ احتَرق تَحوّلَ إلى رماد، لقد عاثَ أهلُ سَدُوم في الأرض فساداً، دَمّروا كلَّ الأشياءِ الجميلة..
دَمَّروا العَلاقاتِ العائليّة.. دَمَّروا الفِطرةَ الصافية.. نَبَذوا الأخلاقَ الكريمةَ وأصبَحوا كالخَنازير..
امتلأت حياتُهم بالرِّجس والقَذارة والمُنكَرات.. أصبحت هذه الأشياءُ تقاليدَ قوميّة، لهذا حَلَّ بهم غَضبُ الله، فأمطَرَت السماءُ عليهم ناراً وشُهُباً وحِجارةً من سِجّيل..
وما تزالُ آثارُ سَدُوم باقيةً حتّى اليومِ أرضاً مُوحِشَةً مَليئةً بالمِلح والحجارة المُحتَرِقةِ.
بسم الله الرحمن الرحيم
كذّبتْ قومُ لوطٍ المرسَلين * إذْ قالَ لهم أخوهم لوطٌ ألا تتّقون * إنّي لكم رسولٌ أمين * فاتّقُوا اللهَ وأطيعونِ * وما أسألكم عليه من أجرٍ إن أجريَ إلاّ على ربِّ العالمين * أتأتون الذُّكرانَ مِن العالمين * وتَذَرون ما خَلقَ لكم ربُّكم مِن أزواجكم بل أنتم قومٌ عادون * قالوا لئن لم تَنْتهِ يا لوط لَتكوننّ من المُخرَجِين * قال إنّي لعملكم من القالين * ربِّ نَجِّني وأهلي ممّا يعملون * فنَجّيناه وأهلَه أجمعين * إلاّ عجوزاً في الغابرين * ثمّ دمَّرْنا الآخَرين * وأمطَرْنا عليهم مطراً فساء مَطَرُ المنذَرين * إنّ في ذلك لآيةً وما كان أكثرُهم مؤمنين * وإنّ ربَّك لَهُو العزيزُ الرّحيم (1)